ثقافيات

الحب في زمن الكورونا

فوددتُ (تعقيم) السيوف لأنها لمعتْ كبارق ثغرك المتبسمِ

الحب في زمن الكورونا
***

كندا سبيل – خاص
بقلم الدكتور/ أحمد البوريني
***
في خضم الأحداث المتسارعة والرعب السائد بسبب انتشار فيروس كورونا الذي أصبح شاغل الدنيا وسيد كل المواقف ومنبع الطرائف؛
تفرض أحداث رواية الكاتب الكولومبي العبقري غابرييل غارسيا ماركيز (الحب في زمن الكوليرا) لعام ١٩٨٥، حضورها في الذهن، وتلقي بظلالها على مشهد اليوم بصورة أقرب إلى العبثية، بدءاً بعنوانها المستفز حتى تفاصيلها، أكثر من أي وقت مضى؛ كي تبدأ المقارنة والمفارقة.

وقبل الغوص في زمن الكورونا وإطلاق العنان للتصورات والتناقضات؛
تروي أحداث رواية ماركيز (الحب في زمن الكوليرا) قصة عشق بين رجل (فلورينتينو) وامرأة (فيرمينا) بدأت بسن المراهقة واستمرت إلى ما بعد بلوغهما السبعين. فبعد ثلاث سنين من العلاقة تم الفراق بين فلورينتينو الفقير وفيرمينا الجميلة التي تزوجت من طبيب ناجح.

رغم ذلك لم يكف فلورينتينو عن حبه لها، واجتهد حتى نجح في أن يصبح ثرياّ، ولم يفقد الأمل في استعادة محبوبته؛ حتى بعد مرور خمسين عاما. وما أن توفي زوجها الطبيب حتى بادر فلورينتينو في خطب ودها من جديد وقد أصبحا في السبعين من العمر.

وفي النهاية نجح في اصطحابها في رحلة نهرية على متن سفينة، كي يقترب منها أكثر؛ ثم قرر التخلص من المسافرين الآخرين بإشاعة أن السفينة عليها وباء الكوليرا، لكي لا تنتهي رحلته مع محبوبته بسرعة؛ وكانت العادة أن يتم رفع علم أصفر على السفينة إذا كانت تحمل وباء، ونجح في ذلك. وعند اقترابهما من الميناء بعد أيام طويلة من الإبحار أوقفتهم دورية بحرية تابعة للسلطات المحلية وأمرت القبطان بقيادة السفينة بعيداً عن الميناء وعدم السماح لأحد بالنزول حتى يتم الانتهاء من إجراءات الحجر الصحي على السفينة والمسافرين. فيقرر فلورينتينو بالاتفاق مع القبطان على الإبحار بعيداً ودون توقف.

وتنتهي الرواية مع استمرار سير السفينة في النهر دون وجهة محددة، وعلى متنها العاشقان، رافعةً علم وباء الكوليرا الأصفر دون أن ترسو، فقد قررا الاستمرار في الإبحار إلى الأبد، لأن ذلك يضمن لهما البقاء سوية حتى النهاية.
لقد كان ذلك الحب في زمن الكوليرا.

أما اليوم، وفي زمن الكورونا، فالواقع أدهى وأمر. فهذه سفينة “دايموند برنسيس” التي تفشى فيها الفيروس وتربض على سواحل اليابان محجور عليها وعلى متنها المئات، وقد فتك فيروس كورونا بالعديد منهم؛ ومثلها عشرات السفن؛ ناهيك عن ضحاياه في البر والجو؛ والأمر هنا ليس خدعة بل مأساة حقيقية؛ حيث المصاب يائس والسليم مكتئب، ولا وقت للحب والحياة.

والأصعب في زمن الكورونا أن الناس أصبحت في هلع وخوف وشك ووسواس يبدأ بغسل اليدين ألف مرة ولا ينتهي بالنعلين، مروراً بتعقيم الزوايا والمرايا والمقابض وشاشات الهواتف؛ أصبح الجميع يخشون بعضهم بعضا بمن فيهم أقرب الأحبة والأصدقاء؛ يخشون السلام، والعناق والتقبيل؛ حتى كاد قيس يفر من ليلى وكثيّر من عزة وعنترة من عبلة، ونزار من بلقيس.

بل كأني (ومن باب الدعابة والتلطيف) أصبحت اليوم أرى عنترة يستبدل بعضاً من مفرداته الشعرية بأخرى تتناسب مع قوانين الحب في زمن الكورونا:

فوددتُ *تعقيم* السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسمِ

فاستبدل كلمة “تقبيل” بكلمة “تعقيم” ليست تأدباً منه بل توافقاً مع مقتضى الحال وحفاظا على الصحة وتجنباً لانتشار الفيروس.

وهذا الأعشى الذي يقول:
ودع هريرة إن الركب مرتحل وهل تطيق وداعا ايها الرجل؟

كأنه اليوم يرد على نفسه كإجراء احترازي وقائي دون استنكار: نعم أطيق وداع محبوبتي هريرة في زمن التيه والكورونا.
ثم تبادر لي سؤال لو أن عمر بن أبي ربيعة قال في أيامنا هذه:

ليت هنداً أنجزتنا ما تعدْ
وشفت أنفسنا مما تجدْ
واستبدت مرة واحدة
إنما العاجز من لا يستبدّْ
كلما قلت متى ميعادنا؟
ضحكت هندٌ وقالت بعد غدْ

والسؤال هنا: هل أجّلت هند الميعاد فعلاً بسبب الكورونا؟ وتجنبت عن قصد منها لقاء ابن أبي ربيعة لأنه قد يكون حاملاً للفيروس. لا شك بأن التأجيل بالنسبة لها سيكون أسلم وأهون من الوقوع في مأزق الحجر الصحي لمدة أربعة عشر يوماً.
وشر البلية ما يضحك.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!
إغلاق
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock