شلبكيات

لقاء سبيل العدد 133- ص8-

مع السينمائي الكندي السوري المهند الناصر

لقاء العدد الشهري رقم 133 مع المهند الناصر
****
لقاء مع المخرج السينمائي المهند الناصر
– رحلة من بواطن علم النفس إلى فضاءات الإخراج والكتابة
– وحوار حول واقع المثقف العربي الكندي بين الاندماج والانزواء
___________________
إعداد وحوار: الدكتور أحمد البوريني – كندا
(سلسلة اللقاءات الثقافية)

مقدمة:

التقيته صدفة في خضم المشهد الثقافي العربي الكندي… هذا المشهد الغائم المحير الذي يذكرك بطقس كندا المتبدل بين الفينة والأخرى رغم روعة الطبيعة، والذي عجز حتى هذه اللحظة، حسب رأي الكثيرين وقد أكون منهم، أن يبين ملامحه الواضحة للقادم الجديد أو المقيم العتيد… بل كلما رأيت مبدعاً عربياً كنديا يحاول الولوج إلى الواقع الثقافي العربي ليدفع به إلى الأمام، وجدت عددا ممن أسميهم “المتطوعين المدّعين”، المتصدرين للريادة والقيادة خلسة أو عنوة يضعون العربة أمام الحصان؛ ليعود ذلك المبدع المثقف شارداً وحائراً أمام السؤال ذاته: هل من سبيل للمبدع في مجتمعنا العربي الكندي إلى أن يقدم ما في جعبته ووجدانه من فن حقيقي به نرتقي ويجمعنا على كلمة سواء؟
ومع ذلك فإن المبدع الحقيقي حامل الرسالة لا توقفه الترهات، ولا تهزمه العقبات، ولا يرتضي الانزواء، بل يؤثر دوما أن يوجد ما يستنهض عزمه، ويجدد انتماءه، كي يتبع حلمه حتى النهاية.
عن المخرج السوري الكندي الشاب المهند الناصر أتحدث:
هو اختصاصي في التحليل النفسي ومخرج وكاتب وروائي، قام مؤخراً بإخراج حفل توزيع الجوائز بمهرجان تورنتو السينمائي الدولي، يمتلك رؤية واضحة، وثقافة واسعة، ويحمل على عاتقه مسؤولية كبيرة تجاه المجتمع. عرفته مقبلاً على الجميع، لم يستسلم أمام المعوقات، بل جعل إنجازاته الفنية وعطاءاته الأدبية دليلاً على إصراره وصدق موهبته. وكان لي معه هذا اللقاء ضمن سلسلة اللقاءات الثقافية:
س1: يقال بأن البدايات تترك صدى بذاكرة ومسيرة أي كاتب أو فنان؛ حيث يبدأ قبل مرحلة النضج بالبحث عن هويته متأثراً بمحيطه الذي ينشأ فيه، ثم يسعى نحو استقلاليته من خلال تكثيف بحثه وقراءاته، قبل التحول نحو مرحلة الشغف فالكمون ثم انطلاق شرارة الإبداع، فكيف كانت تلك البداية بالنسبة للمهند الناصر؟
لقد نشأت في أسرة محبة للقراءة والأدب، فتأثرت بجدي لأمي اسماعيل العرفي وهو كاتب ومفكر سوري لديه العديد من المؤلفات ولديه مكتبة ضخمة، تعد أكبر مكتبة شخصية في سوريا. وكان والدي أول من شجعني على القراءة، وحثني على حفظ لامية العرب للشنفرى في سن صغيرة جداً، وتحديداً ست سنوات. ثم عشت فعلياً بين الكتب منذ سن الثامنة.
وحين أصبحت في الصف الحادي عشر كنت قد قرأت لفرويد وداروين ومحيي الدين بن عربي وابن عبد ربه الأندلسي صاحب العقد الفريد. كما أسهمت كل من دراسة علم النفس والإخراج وكذلك القراءة في تبلور أسلوب خاص بي في الكتابة.
فمثلا أصبحت أستخدم لغة سينمائية في كتابة الرواية، كما ساعدني ذلك في التعمق في التحليل النفسي لشخصيات الرواية ، وبلغة عربية ذات مفردات جزلة وأسلوب راق. وربما كان ذلك طريقاً نحو الإبداع على نحو ما رداً على سؤالك.

س2: ربما أجد من اللافت والمنطقي أن أطرح سؤالي التالي عن رؤيتك للعلاقة بين علم النفس والإخراج السينمائي وإلى أي مدى أسهمت دراستك الاكاديمية في مجال التحليل النفسي في رفد موهبتك وعملك كمخرج.
لا شك بأن هناك علاقة وثيقة بين المجالين، بل ربما كان من أهم أسباب تميزي في دراستي للإخراح في الجامعة تمكني من اختصاصي الآخر وهو الأسبق في مجال علم النفس.
والحقيقة أن السينما تعتمد على علم النفس بالدرجة الأولى. ويبرز ذلك من خلال أعمال العديد من المخرجين الكبار أمثال ألفريد هيتشكوك، وأورسان ويليس، وستانلي كوبريك، والتي كان معظمها ذا صلة وثيقة بعلم النفس.
والأعمال السينمائية تعمل على مخاطبة اللاوعي عند الإنسان بصورة أساسية، فمجرد دخولك إلى قاعة السينما وجلوسك كمتفرج في الظلام دون أن يكون أمامك شيء سوى الشاشة، يجعلك في حالة أقرب إلى الحلم، فأنت تشاهد ولا تتدخل، وتترك للمَشاهد التي تراها أمامك المجال لمخاطبة لاوعيك.
حتى البروباغندا وسايكولوجية الجماهير كانتا دوما محور اهتمام بالنسبة للسينما الأمريكية، حيث وظفتها من أجل نقل رسائل معينة، وصولاً إلى تغيير كثير من المفاهيم وبرمجة الوعي لدى الجمهور. وضمن هذا السياق، أعمل حالياً على تأليف كتاب عن السينما والتحليل النفسي، وأركز من خلاله على آلية توظيف كثير من المخرجين لأساليب علم النفس بصورة كبيرة بهدف التأثيرعلى المُشاهد. ومثال على ذلك تناول الظروف والأسباب التي اضطرت المخرج ستانلي كوبريك إلى سحب أحد أفلامه من السوق بسبب التأثير النفسي الشديد على المشاهدين.
س3: هل تتبلور شخصية المثقف والمخرج والفنان بطريقة إيجابية حين يكثر السفر والترحال بين ثقافات مختلفة؟ كانت بداياتك في سوريا حتى عام 2000، ثم خرجت في سن مبكرة، ثم انتقلت للاستقرار في كندا عام 2014؛ فهل تشعر بشيء من الازدواجية أو بأنك تعيش فصاماً بين مرحلتين أو ثقافتين؟
برأيي العكس هو الصحيح؛ فسبب كتاباتي للروايات هو التنوع الثقافي ومعيشتي بين سوريا وأستراليا وبريطانيا وكندا ومصر، لأن ذلك التنقل بين الثقافات يثري الخبرات ويعمق الوعي ويعزز الهوية بصورة تكاملية، ويجعل الكاتب أو الفنان قادراً على تصوير الواقع بصورة أدق وأصدق.
فمثلاً عند زيارتي لمصر قصدت أن أزور المقابر حتى أتمكن من الكتابة عنها بدقة شديدة. ولم أكتب في أي من رواياتي عن أماكن لم أزرها بل أحاول أن أتعرف على كافة تفاصيل المكان والبيئة، فأنا أنتمي إلى هذا المنهج الواقعي في الكتابة. أولا أتخيل المكان ثم أزوره لأتأكد من طبيعة تخيلي للمشهد والتفاصيل، ثم أقوم بالتعديل. وبالنسبة للتجربة الكندية، تدور أحداث روايتي الأخيرة واسمها أعيش بمفردي (لم تنشر بعد) تدور أحداثها في كندا وقد تعرضت من خلالها إلى مزج بين الإنسان العربي الفصامي الذي جاء إلى كندا ولكن في نفس الوقت لم يتمكن من التحرر تماماً من الموروث العربي كما أنه لم يتمكن من الإندماج التام في المجتمع الكندي، لذلك أصبح وحيداً منعزلا.
س4: ما مسؤولية المثقف العربي الكندي تجاه مجتمعه؟ قد تكون المسؤولية عالمية أو إنسانية ولكن هل تشعر بمسؤولية خاصة تجاه المجتمع العربي الكندي وضرورة التفاعل معه؟
أكيد، فحسب رأيي، يتوجب على المثقف أن يبدأ بمحيطه. وربما يتمثل أكبر خطأ قد يرتكبه الكاتب في ابتعاده عن الناس. قد يصاب فعلياً ببعض الإحباط، ولكن برأيي إن ذلك لا يبرر بأي حال ابتعاد كثير من المثقفين عن الناس واختيار الانزواء. أما بالنسبة لي شخصياً، فإنني أحاول قدر الإمكان أن أظل قريباً من الناس وأنشطتهم ومشاكلهم وهمومهم. بل أحاول أحيانا المساعدة في حل بعض المشاكل من خلال ممارسة اختصاصي كمحلل نفسي ولكن أمارس هذه المهنة تطوعا ودون مقابل، حتى أظل قريباً من الناس وهمومهم. وباختصار، لايحق للمثقف أو الكاتب أن يجلس في قصر عاجي منفصل عن الواقع ثم يكتب عن الناس. وتطبيقاً لهذا المبدأ فإنني عرضت توظيف خبراتي من أجل عمل دورات للسيدات الباحثات عن عمل عبر إعطائهن دورات مجانية في المونتاج. ومثال على ذلك دورة لمدة ثلاثة أيام أو أسبوع في التصويرالفوتوغرافي، فيمكن للسيدة ومن خلال استثمار مبلغ زهيد (كاميرا، وجهاز كمبيوتر) أن تقوم بعمل مونتاج لحفلات أو فيديوهات، مما يدر عليها دخلا أساسياً، كما يمكنني مساعدة الكتّاب الذين يواجهون معوقات في النشر من خلال مساعدتهم في البحث عن ممول أو ناشر.
س5: من الأسئلة الثابتة التي نطرحها من خلال سلسلة اللقاءات الثقافية: ما رأيك كمثقف بالواقع الثقافي العربي الكندي؟ وهل هناك شخصيات أو مؤسسات ثقافية فاعلة تؤصل لبنية تحتية وصولاً إلىمجتمع قادر على العطاء؟
أنا متأكد أن هناك أشخاصاً قادرين على قيادة الحركة الثقافية العربية في الساحة الكندية، ولكن العديد منهم يعاني من الإحباط والانزواء بسبب اصطدامهم بالواقع، وفي المقابل رأيت عددا آخر من المدّعين الذين يمارسون مبدأ الإقصاء، وتطويع أي نشاط أو منصة ثقافية لصالحهم الشخصي، بل دائما هناك عدم قبول من جانبهم للآخر بغض النظر عن فكره، أو مستواه العلمي أو نتاجه الأدبي.
وللأسف الشديد ما لمسته من خلال عدة تجارب هنا أن البعض قد يبدأ بتطبيق فكرة ما ، ثم ينتقل إلى الاستحواذ أو الإقصاء أو فرض الرأي، ثم مهاجمة من يخالفه الرأي. يجب أن ننطلق من مبدأ ممارسة الحرية الفكرية والدينية والثقافية والأيديولوجية وهي مبادىء مطبقة فعلياً في كندا، ولكن للأسف في رأيي العديد من المثقفين العرب لم يستفيدوا من تلك الفرص. في حين آثر البعض أن يحمل مخزونا سلبياً قائما على فكرة التصدر للمشهد وقيادة وعي الآخرين … وتوزيع المناصب واللجان.
وهناك مشكلة أن كثيراً من المهاجرين ومنهم العرب لا يعرفون عن كندا أكثر من محتوى اختبار الحصول على الجنسية كمتطلب أساسي لنيلها. هنا يأتي دور المثقف لرفع مستوى الوعي والمعرفة لدى المجتمع، حتى نتمكن من التواصل السليم مع مختلف أطياف المجتمع بثقافاتهم المختلفة.
اقترحت مثلا عمل ندوة للمجتمع العربي الكندي حول حضارة وثقافة السكان الأصليين في كندا وتجربتهم كخطوة أولى في تفهم مبدأ الاندماج والتحديات.
س6: كندا بلد يحترم التعددية والثقافات دون الذوبان بالضرورة في بوتقة الثقافة الكندية الشاملة. كيف نحقق المعادلة بالانتماء للثقافة الكندية الكلية دون ضياع الهوية الثقافية الأصلية؟ ما دور المثقف هنا؟ وما حدود الاندماج؟
أنا أرى بأن فكرة الإندماج لا تتعارض مع المحافظة على ثقافتك الأولى، لأن الإندماج يستند إلى مبدأ الاحترام بصورة أساسية. فلا بد أن أنطلق من مبدأ احترام ومعتقدات الآخرين في التعامل، مع التمسك بثقافتي ومعتقداتي في الوقت نفسه. فالعلاقة تبادلية. ووظيفة المثقف هنا أن ينشر الوعي بهذا المبدأ في التعامل خاصة مع القادمين الجدد. فاحترام الآخرين لا يعني بأي حال التخلي عن ثقافتنا.
س7: في ضوء التخبط في المشهد الثقافي عموماً، هل تعتقد بأن هناك أملاً في بناء أسس لواقع ثقافي عربي كندي قائم على الاحترام المتبادل والتعبيرعن المسائل العربية الكندية الحقيقية وبأسلوب يرفع من سوية هذا الواقع، وتعزيز النتاج الفكري والأدبي؟
أعتقد بأننا لسنا الوحيدين ممن يؤمنون بهذا الفكرة، فهناك عدد لا بأس به من المثقفين العرب الإيجابيين والفاعلين ممن يسعون إلى تجميع الجهود ضمن إطار عمل ثقافي راقٍ، والقضاء على حالة التشتت في الجهود عموماً، دون النظر إلى من هو الرئيس والمرؤوس في الجمعيات والملتقيات، إضافة إلى أهمية تأطير العمل وتوحيد الجهود والأهداف العامة أسوة بكثير من الجاليات والمجتمعات الثقافية الأخرى في كندا.

كندا – سبتمبر 2023

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!
إغلاق
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock