عابر سبيل- العدد رقم 155- ص4- العبور بعنوان : الفيسبوك ودوره المتفاقم في تردّي الثقافة والمجتمع.
ضيف هذا العدد هو الدكتور سيار الجميل.

نتشرف بان يكون العابر في هذا العدد هو الدكتور سيار الجميل والعبور بعنوان:
الفيسبوك ودوره المتفاقم في تردّي الثقافة والمجتمع
أولا: تحديد الاشكالية …كم يتغّير الزمن خلال ايام وتتغير معه الحياة وكل مظاهرها .. وبقدر ما يتجلى الانسان على حقيقته في هذا الزمن ، ويتعّرى بكلّ أخطائه وصواباته ، لكن حجم المثالب يغلب على انكماش الايجابيات والابداعات التي تضيع وسط خضم من التفاهات والتعبير المتوحش .. نجد جملة من المساوئ التي قد يشعر بها من له تفكيره وبعد رؤيته .. والحق يقال ، ان هناك مواقع وصفحات رائعة ومنصات تنويرية تعكس روعة أصحابها ومستواهم الفكري والثقافي والاجتماعي وينكمش من يجد في الاشياء الجديدة ما لم يجده في الماضي .. لقد غدا الفيسبوك كأحد وسائل التواصل ( الاجتماعي) مقرفا ومتوحشا كونه غدا بأيدي ملايين الجهلة ولما كان افراضيا ، فالراصد يجد اشباحا او يجد من يتخطّى الخطوط الحمراء بلا اي وازع من تفكير او اخلاق .. ويبقى الانسان متعلقا به بل ومتشبثاً كونه يجد فيه متعة وملهاة أكثر من كونه وسيلة للتطور والتقدّم.
ثانياً : التأثير السلبي لا الايجابي … الفيسبوك، كغيره من وسائل التواصل الاجتماعي، له تأثيرات كبيرة على الثقافة والمجتمعات ، وكل يوم يمرّ تتفاقم مساوئه في اثارة قضايا تنهك المجتمع وخصوصا عندما يتم التعّرض لكل ما يثير ليس الجدل والنقاش بين الباحثين والمجتمع، بل لكلّ الغثيان والدسائس والشتائم سياسية كانت ام طائفية أم عرقية أم انقسامات تاريخية حول شخوص ومسردات عفا عليها الزمن .. بل وتطرح خصوصًا في سياق الخصوصية او مسائل شخصية ، أو أ جارحة او قادحة أو مسيئة للذوق العام مما يقود الى تفكك العلاقات الاجتماعية، ويسيئ الى القيم العليا والثقافة والتمدن ، فضلا عن تردي مستويات اللغة والآداب العامة . ولا يمكن تجاهل تناقل المعلومات الخاطئة ، وهذه كارثة ، فلم تعد محصورة بين جدران المقاهي والمجالس .. بل انتشرت نحو ملايين الناس ! ولم يكتف البعض بملتقياتهم الهزيلة وحوارتهم الفارغة بل راحوا ينقلونها على الفيسبوك فشرعت ثقافة من نوع جديد تطغى في الاوساط التي يسمونها ( مثقفة ) !!
ثالثاً: الأخطاء والمساوئ للذي أسميته بـ التواصل المتوّحش
1- التحرر الزائد، العلاقات المفتوحة، الفردانية). تقليد أعمى لبعض المؤثرين أو المشاهير دون وعي أو تمحيص ثقافي. ونشر الشائعات والمعلومات المغلوطة مع سرعة انتشار الأخبار دون تحقق، فيقود إلى تشويه الحقائق أو تأجيج الفتن، خاصة في المواضيع الدينية أو الطائفية. مع صعوبة السيطرة على الخطاب التحريضي أو الطائفي الذي قد يهدد التماسك الاجتماعي.
2- تأثيره على الحياة الاجتماعية بتفكك العلاقات الأسرية نتيجة الإدمان على الفيسبوك والانشغال عن التواصل المباشر. مع اثارة سايكلوجية الغيرة وتأجيج الكراهية وبروز التمايزات والشعور بالنقص، او استعراض الذات والمفاخرات وسيل المجاملات مقارنة بالتسقيط وكيل الاهانات والتقريع وتوزيع الاتهامات او اعلان الشماتة وممارسة التهديدات ..الخ وهذا كله لا نجده في مجتمعات متمدنة او متقدمة.
3- عبادة الذات والأنوية وضعف الوعي واختراق الحسابات أو استخدام الصور الشخصية بطريقة مسيئة. ونشر اساءات لاشخاص أو العائلات في مجتمعات محافظة. فضلا عن تأثيره على الشباب والمراهقين المتأثرين سلبًا بـ نماذج غير واقعية وخادعة وغير لائقة منها ما هو إباحي، وتحريضي، وإلحادي إلخ) وبلا رقابة وهذا لم اجده في مجتمعات اخرى .
4- تسييس المحتويات والمضامين والمسردات المضادة واستغلال الفيسبوك لأغراض سياسية، أو حزبية قد تكون فاعلة ونظيفة اهدافها نبيلة ، ولكن قد تستغل من قبل عصابات او ميليشيات او قوى واحزاب لنشر اساءات وتحريضات واشاعة اتهامات لا اخلاقية لمن سماهم العراقيون بـ ” الذباب الالكتروني”مما يؤدي إلى استقطاب فكري أو اجحاف سياسي أو حتى فوضى اجتماعية. مع استخدام الفيسبوك منصات تنّمر أو ابتزاز أو تحرش إلكتروني، وخاصة تجاه النساء. وعلاقات شخصية مخفية أو صفقات مالية مواربة من خلال الرسائل والصور والتعليقات المثيرة للاشمئزاز صباح مساء .
5- الإدمان وضعف الإنتاجية ومعاناة المستخدمين والموظفين والعمال وحتى الطلبة ، مما يؤثر على تحصيلهم العلمي أو أدائهم في العمل او حرج سلوكياتهم الاجتماعية في المجالس او الاجتماعات .. وهم موجودون وغير موجدين اذ انهم في عالم آخر الخ .
رابعاً : محتوى نفايات ما النتائج ؟ وما سيفرزه من خطايا ثمّة دراسات احصائية اجرتها مراكز بحوث متخصصة ، ومنها مركز اكنك للثقافات البشرية وبمنتهى العلمية والدقة خرجت بنتائج غاية في الخطورة على مجتمعاتنا بالذات :
1-الانعزالية الاجتماعية والإدمان لدى الشباب وبعضها أصابت حتى الأطفال ، وأن التركيز على فيسبوك بعيدًا عن الواقع يؤدي إلى الانسحاب الاجتماعي نتيجة الإغراق في التصفيح والتواصل الافتراضي. ان تأثيره سلبي جدا على الدراسة والتحصيل العلمي وقد انخفض المعدل التراكمي.
2-تشويه الأدب واللغة العربية بالاعتماد على الفيسبوك ضمن الثقافة الشعبية، أدى إلى تراجع اللغة ومستوى الثقافة ، حيث أصبحت التعبيرات سطحية وغير منقحة، مما أضرّ بجودة الفكر والإبداع العربي وضعف الكتابة الجيدة وانتشار الاخطاء بحيث أجد اساتذة جامعات لا يجيدون كتابة فقرة واحدة !
3- وبرزت فجوة بين استخدام معايير مجتمع فيسبوك وتنفيذها فعليًا، خصوصًا في حذف المحتوى العربي مما قد يثير مشاكل على حرية الرأي والتمثيل الثقافي. والفيسبوك خزين بشع للشائعات والكراهية وهو يحمل عدوى ثقافية وتأثير على التغيير ، ولكن في مجتمعانا نحو الأسفل . مما يقود الى فقد الهوية .. وهناك من يصفق لذلك ويروج لذلك كونه يكره عالمنا كراهية عمياء وهو من قلب دواخله ! اذ تجده مع كل الإشاعات والأخبار الكاذبة والأجندات الطائفية المسيئة التي لا تطيق حتى نفسها . مع تصدير ثقافات هجينة ولغة ممجوجة جديدة تثير السخرية ومانشيتات تدعو الى الكراهية .. وهنا يفاقم الفيس بوك الغيظ الجمعي ، ويجد بعض من كانت قلوبهم سوداء يأكلهم الحقد وتمزقهم الكراهية وتجعلهم يمقتون انفسهم جراء حقدهم على المبدعين والناجحين والمتميزين عليهم .
خامساً : الخلاصة …أرى أن مجتمعاتنا بحاجة إلى إعادة بناء سايكلوجيتها الجمعية والعمل على التخّلص من هذه الأزمات الثقافية بعيدًا عن الهيمنة الأيديولوجية أو تبنّي قيم غربية دون تمحيص. ومعالجة الفوضى الثقافية الحالية (الناجمة عن الثورة الرقمية أو وسائل التواصل) بضرورة استنهاض مشروع ثقافي مدني يرتكز لغةً وقيمًا على الوعي والحرية والمواطنة وغسل الانفس من الاحقاد والغاء اللغة المتوحشة والمضادة وتحريم الشتيمة واللعنات والتهديدات . وسائل التواصل مدمّرة للوعي المجتمعي بسبب الانقسام والتحريض. فالإدمان عليها يحجب التفكير النقدي. مع المحتوى المنخفض الجودة يسيطر. لديها إمكانات كبيرة قد تُستثمر لصالح الثقافات في مجتمعاتنا إذا تم توظيفها بشكل واعٍ. لقد قلت منذ زمن طويل : ” أن الإنترنت ووسائل التواصل “من أرقى ما توصلت له البشرية”، ولهذا يجب توظيفها توظيفًا أخلاقيًا وتربويًا وبنّاء لتعزيز الأرشيف الثقافي والمعرفي العربي، وليس فقط لنشر الإثارة أو الأكاذيب واشاعة الدعايات والاشاعات والخرافات والبذاءات دون رقابة ” .
***