
لقاء العدد الشهري رقم 152 مع السيدة الكاتبة باسمة التكروري.
أجرى اللقاء : محمد هارون .
************************************
المقدمة : بالنسبة لي على الأقل لأول مرة أتمكن من حضور تجمع ثقافي واع بميسيساغا – اونتاريو تمثل بمعرض كتاب عربي متنوع الفعاليات ليومين متتاليين ولاقى نجاحاً لافتاً .
هذا المعرض الثري شمل عرض الكتب المتنوعة وتوقيعها ونقاشات مع أدباء وعرض مسرحي ودبكة وفنون تشكيلية موسيقى وأغان وطنية وتراثية . هذا المهرجان الثقافي متعدد الأوجه والذي ركز بمعظم فقراته على ما يجري من حرب إبادة على الشعب الفلسطيني بغزة وغيرهأ، أقيم في البيت الفلسطيني بميسيساغا – اونتاريو. فعلاً نحن بحاجة لمثل هذه الفعاليات لترافق التظاهرات واللقاءات المستمرة في مدن كندا منذ ما يزيد عن سنة ونصف تضامناً مع أهلنا في الوطن المحتل.
من هي الجهة المنظمة لمثل هذا العمل المتميز وما هدفها وهل خرجت بنتائج مفيدة على مسيرة العمل الثقافي والفني العربي الكندي؟. مجموعة أسئلة حملناها لمنظمة المعرض والذي أقيم يومي السبت والأحد 5 و6 من نيسان/ ابريل 2025 السيدة الكاتبة باسمة التكروري مديرة شركة نواة للإنتاج الثقافي والفني .
******
س1 : أهلاً وسهلاً باسمة صاحبة الإبتسامة الدائمة على صفحات جريدة ساخر سبيل .. في البداية حديثينا عن باسمة الإنسانة والأديبة وعن شركة نواة المنظمة للمعرض .
ج1: شكراً لهذا التقديم الجميل. يصعب عليّ اختصار الرحلة، لأنني لم أختر الطريق، بل كتبتني الحكاية خطوة بخطوة. كل تجربة صنعت فيّ صوتاً، وكل منعطف في حياتي كان درسًا في الإيمان بدور الثقافة حين لا يبقى لنا شيء سواها. أنا باسمة التكراوري، كاتبة روائية ومنظمة ثقافية فلسطينية كندية. بدأت رحلتي مع التنظيم الثقافي من فلسطين، عام 2004، حين كنت أعمل مع مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي. هناك، ساهمت في تعزيز القراءة وبناء مكتبات صغيرة في القرى والمخيمات، إيمانًا بأن الكتاب يجب أن يكون متاحًا للجميع، لا حكرًا على المدينة أو من يملك الرفاهية. ثم انتقلت إلى مركز خليل السكاكيني الثقافي، حيث نسّقت برنامج “الفن للجميع”، بهدف نقل الثقافة من المراكز الحضرية إلى المناطق التي لم تكن تصلها الأنشطة الفنية—إلى المخيم، إلى القرية، إلى من يحتاجها أكثر من غيره. وأدرت برنامج تدريب الكتابة الإبداعية لمعلمي ومعلمات المراحل الإعدادية في المدارس الحكومية التابعة لوزارة التربية والتعليم في فلسطين. لاحقًا، تنقّلت بين الدراسة والعمل في الترجمة والإنتاج الثقافي، بين فلسطين، الولايات المتحدة، ثم كندا. وعندما وصلت كندا، حملت معي تجربتي وهمّي الثقافي، وأسّست عام 2020 “نواة للإنتاج الثقافي والفني”، وهي مؤسسة عربية كندية غير ربحية، تهدف إلى دعم وتمكين الإنتاج الثقافي العربي في كندا، وإعطاء صوت للجالية العربية من خلال الفن، الكتابة، المسرح، والنقاشات المجتمعية. “نواة” ليست مؤسسة فقط، بل مساحة حيّة للإبداع، ومكان نخلق فيه اللغة التي تشبهنا نحن كعرب مهاجرين. من خلالها نظمنا ورشًا أدبية وفنية، مهرجانات، عروضًا مسرحية، ومعارض، تسعى كلها لبناء صلة وصل بين الثقافة العربية وسياقها الجديد في كندا. كما شاركت مؤخرا مع الشاعر الفلسطيني يونس عطاري في تأسيس دار لوما للنشر، التي خرجت للنور بعد اندماج دار الحاضرون وشركة بوكترانزيتس، كدار مستقلة تهتم بنشر الأدب العربي المكتوب في كندا أو عنها، والتركيز على الترجمة والتوزيع النوعي للكتب التي تناقش الهوية والشتات والعدالة. من خلال “لوما”، صدرت روايتي الأخيرة “الإمام: حكاية شبح سكن الطريق”، وهي عمل يدمج بين التاريخي والروحي، يتناول رحلة رجل يصبح إمامًا للمسجد الأقصى في الخمسينات، بعد نكبة واغتراب داخلي. الرواية تحكي عن الفقد، والتحول، والقيادة في زمن الانهيار، وعن القوة التي نكتشفها حين نظن أننا انتهينا.
كروائية، أكتب لأن الكتابة هي طريقتي في البقاء. أكتب لأنني أؤمن أن الكلمة الحرة تصنع مجتمعًا أكثر وعيًا وإنسانية، وأن الثقافة ليست ترفًا، بل مسؤولية أخلاقية وجماعية.
س2: بمعرضكم بدورته الأولى، والذي أقيم مؤخراً في البيت الفلسطيني بميسيساغا. ما الهدف من إقامته أو ما هي رسالته؟ وخاصة بمثل هذه الظروف المُرة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني .
ج2: في الحقيقة، لا يمكن فصل هذا المعرض عن اللحظة التي وُلد فيها. لم يُخطط له كرد فعل مباشر على الحرب، بل جاء كفعل ثقافي كان قيد التحضير منذ أشهر، لكنه انعقد وسط واحدة من أكثر اللحظات وجعاً في الذاكرة الفلسطينية المعاصرة، حيث فقدنا الآلاف من الأرواح، وشهدنا دماراً تجاوز حدود التخيل، وجرحاً إنسانياً نازفاً لا ينحصر في حدود غزة وحدها، بل طال وجداننا كإنسانية بأكملها.
معرض الكتاب لم يكن استجابة للحرب، بل كان وسيلة للتمسك بإنسانيتنا في زمن تحاول فيه الوحشية أن تسحق كل ما هو جميل، وكل ما يربطنا بذاتنا الجمعية. لقد شعرنا، كبشر أولاً وكفلسطينيين ثانياً، أن ما يجري يتعدى الدم المسفوح ليطال أعماقنا، ليُهدد اللغة والذاكرة والروح. في مواجهة هذا، لم نجد سوى الثقافة والفن سبيلاً لاستعادة توازننا، لنعلن أننا ما زلنا هنا، نقرأ، نكتب، نحب، ونُبدع.
المعرض في جوهره كان تظاهرة أدبية فنية، ركّز على الكتّاب العرب الكنديين وكتبهم، بوصفهم جسراً حياً بين الضفتين: ضفة الجذر وضفة المنفى، ضفة الحنين وضفة البناء. وقد جاء المعرض تتويجاً لجزء من استراتيجية نواة التي نعمل عليها منذ سنوات، والهادفة إلى تمكين الكتّاب والفنانين العرب في كندا داخل مجتمعهم الناطق بالعربية، وتعزيز حضورهم وتأثيرهم. وهي خطوة أولى نكملها في المرحلة القادمة ببرنامج ترجمة ودعم وترويج لإيصال هذه الأصوات إلى المجتمع الكندي الأوسع، بلغاته المختلفة.
لم يكن المعرض فعلاً احتفالياً بقدر ما كان تجمّعاً للمقاومة الثقافية، منصة لإعادة الاعتبار للكتاب كأداة وعي وصمود، وللكاتب كفاعل اجتماعي يحمل قضيته بقلمه، لا بسيفه. وكان إصرارنا على تنظيمه في البيت الفلسطيني مقصوداً، لنعيد ربط الفعل الثقافي بالجذر، ونحتفي بالمكان بوصفه مساحة للانتماء، ولإعادة كتابة ذواتنا بعيداً عن التشويه. نعم، يقف هذا المعرض منارة للفعل الثقافي العربي في كندا، ويعد بالكثير من المشاريع القادمة، لأننا نؤمن أن المعركة الحقيقية لا تُخاض فقط على الأرض، بل أيضاً في الحبر، على الصفحات، وفي المسارح، وبين رفوف المكتبات.
س3: من هي أبرز الشخصيات الأدبية و الجهات المشاركة في المعرض وما طبيعة الأنشطة التي غطت فقرات المهرجان الثقافي الذي استمر ليومينن متتاليين .
ج3: شارك في فعاليات وندوات معرض ميسيساغا للكتاب العربي عدد كبير من الكتّاب والمبدعين البارزين الذين أثروا البرنامج الثقافي بمداخلاتهم وقراءاتـهم الأدبية والفكرية. تنوعت مساهماتهم بين قراءات شعرية، شهادات سردية، مداخلات فكرية، وندوات ناقشت قضايا جوهرية في الرقابة، المسرح، وحرية التعبير، ما أضفى على المعرض عمقًا فكريًا وروحيًا عبّر عن وجدان الجاليات العربية في كندا. ساهمت في تنظيمها مؤسسات ثقافية عربية وكندية في ميساساجا وتورنتو من بينها، مؤسسة نادي القلم الدولية الكندية PEN Canada, بيت الخيال في تورنتو، منتدى الشرق ومنظمة حنين.
من بين الأدباء ة المشاركين الروائي التونسي كمال الرياحي، الروائي الفلسطيني السوري تيسير خلف، الشاعر العراقي كريم شعلان، الروائي السوري رضوان وحيد طالب، الكاتبة الفلسطينية أمل فطاير، الكاتبة العراقية أمل حبيب، الروائية اللبنانية أسين شلهوب، الكاتبة العراقية مينا راضي، الشاعر المصري وليد الخشاب، الكاتب والمخرج السوري المهند الناصر، الشاعر الفلسطيني يونس عطاري، الكاتب المصري مدحت غبريال، الكاتب السوري عبد الرحمن مطر، الكاتب المصري محمد فتيح، الروائي العراقي صلاح صلاح، الشاعر المصري عصام خليفة، المحاورة الأدبية رغدة ميقاتي، الشاعر الفلسطيني أشرف الزغل، الشاعرة السورية جاكلين حنا سلام، الكاتب الفلسطيني عبد الله الخطيب، الكاتب السوري هاني يكن، الفنانة التشكيلية والكاتبة الفلسطينية هنادي بدر، الكاتب المصري مصطفى الأعصر، الكاتب العراقي ثامر الصّفار، الفنان العراقي جبار الجنابي، المسرحية السورية ندى حمصي، والكاتب الصحفي والمسرحي الفلسطيني محمد هارون. كما شاركت أنا في عدد من الندوات والقراءات وأطلقت رواية الإمام في معرض الكتاب. بالإضافة إلى الندوات الثقافية المتعددة، فقد شهد المعرض ثلاث عشرة فعالية إطلاق كتاب جديد. أما بالنسبة للفن والموسيقى، فقد أحيا الفنانون ماجد ظريف، نتالي، ياسر سوريال، ليان، والفنانة الفلسطينية منى عايش أمسيات موسيقية تراثية اختُتمت بعرض دبكة فلسطينية نابض، شارك فيه أطفال ويافعون فلسطينيون غمرهم الفخر بهويتهم. وقدّمت الفنانة اللبنانية ليان كروم فقرات المهرجان كمقدمة وعريفة، بأسلوب رشيق تفاعل معه الجمهور. وللأطفال، كان هناك عرض مسرحي غنائي مميز من إنتاج منظمة حنين، قدّمه الفنانان السوريان رهف العقباني وإسماعيل أبو فخر، ولاقى تفاعلاً كبيرًا من العائلات والأطفال. أما على مستوى النشر، فقد شاركت مجموعة من أبرز دور النشر العربية المستقلة والمؤثرة، من بينها: دار النهضة العربية، دار المتوسط، دار الرافدين، دار طباق، دار الأهلية، دار الجديد، دار مرفأ، مؤسسة تامر، دار لاماسو، دار لوما، داري بوكس، مسعى، يونيك بوكس، عربوكش، وبوكتـرانزيتس. لقد شكّل هذا التنوع الغني في المشاركين والفعاليات لوحة فسيفسائية نابضة بالحياة، تَجمّع فيها الأدب والموسيقى والمسرح والفن التشكيلي تحت سقف واحد، ليُعيد التأكيد على أن الثقافة العربية في كندا حيّة، نابضة، ومتجذّرة، وتعد بالكثير في السنوات القادمة.
س4: هناك جهات عملت وتعمل على إقامة معارض وأنشطة ثقافية وفنية مشابهة لما قمتم به، السؤال :
هل وجود مثل هذه الجهات أو الشخصيات يطور العمل أم أن التنافس قد يحبطنا جميعاً ؟.
ج4: أعتقد أن السؤال الأهم هنا ليس “من يعمل؟” بل “كيف نعمل معاً؟”. في تجربتي، تعدد الجهات والمبادرات الثقافية ليس عبئاً بل ضرورة، بل هو أحد مؤشرات الصحة في أي مشهد ثقافي حيّ. حين تتعدد الأصوات، تتعدد الزوايا، وتتوسع مساحة التعبير والابتكار، وهذا ما نحتاجه في الجاليات العربية بكندا. نحن لسنا نسخة واحدة، بل تنوع هائل في الخلفيات والتجارب واللغة والأسلوب والمرجعيات.
ما نحتاجه هو الانتقال من التوازي إلى التقاطع، من المبادرات الفردية إلى شبكات التعاون. وهذا ممكن فقط حين ننتقل من منطق التنافس الضيق إلى منطق الشراكة والمسؤولية الثقافية المشتركة. “نواة” منذ تأسيسها تشتغل بهذه الروح: أن نكون نقطة التقاء لا نقطة ارتكاز، أن نبني مساحات تُرحّب بالآخر وتعمل معه، لا بمعزل عنه. وفي الحقيقة، كان معرض ميسيساغا للكتاب العربي تجسيداً حياً لهذا المبدأ. لقد شكل أرضية تعاون وقصة نجاح واضحة، ليس فقط بفضل فريق نواة، بل بتظافر جهود عدد من المؤسسات الثقافية والفنية التي تشتغل في الدائرة نفسها، وتخاطب الجمهور نفسه. هذا التنسيق بين الفاعلين هو ما أنجح المعرض بشكل أساسي—ليس لأن كل جهة تنازلت عن دورها، على العكس، استثمرناه سوية، بل لأن الجميع آمنوا بأن توحيد الجهود في لحظة جماعية يحقق أثراً أعمق من العمل المنفرد. ولعلّ الأهم من النجاح التنظيمي والفني للمعرض، هو أنه فتح نقاشاً عميقاً بين مختلف المؤسسات والعاملين في قطاع التنظيم الثقافي حول أهمية تضافر الجهود في المحافل الكبرى مثل معارض الكتب. ومن هذا النقاش، انطلقت فكرة وخطة تأسيس معرض ميسيساغا الدولي للكتاب، والذي سيكون خطوة النمو الطبيعية للمعرض العربي. هذا المعرض المرتقب والذي أعلنا عنه على صفحة نواة الأسبوع الماضي، سيقام على مدى تسعة أيام، بين 5 و12 أبريل 2026، سيكون جهداً ضخماً تقوده لجنة إدارة ثقافية مستقلة، مكوّنة من ممثلين عن مؤسسات عربية وغير عربية، تُعنى بالشأن الثقافي والفني، وتؤمن بأن الأدب والفن لا يعرفان حدود اللغة. سيكون “معرض ميسيساغا الدولي للكتاب” مساحة حقيقية للتبادل الثقافي بين العرب والكنديين وغيرهم، خطوة باتجاه كندا أكثر تنوعاً، أكثر إنصاتاً، وأكثر اتصالاً بجذورها الجديدة.
س5: حتى نضمن استمرارهما بانتاج وفير ومفيد ، هناك قول ينادي: إن المسرح والكِتاب يجب أن يكونا من ضمن مهمات الدولة. ما رأيك بهذا القول ؟.
ج5: هذا القول يحمل كثيرًا من الحقيقة، بل يمكنني أن أذهب أبعد من ذلك وأقول إن الثقافة بكل تجلياتها – من كتاب ومسرح وسينما وموسيقى – يجب أن تكون في صُلب السياسات العامة للدولة، لا على هامشها. فالكتاب والمسرح ليسا ترفاً فكرياً أو نشاطاً نخبوياً، بل هما أدوات بناء وعي، ومرايا للمجتمع، ومختبرات لتفكيك الواقع وصياغة المستقبل. حين تُقصى الثقافة من اهتمامات الدولة، يصبح المجتمع أكثر هشاشة، وأكثر عرضة للاختزال والتطرف والتشظي. والمسرح والكتاب بالتحديد هما الفضاءان اللذان يُعيدان إلينا لغتنا الجمعية، يُحفّزان الخيال النقدي، ويمنحان الأجيال الجديدة أدوات للفهم والتعبير لا تُعوّض. لكن، رغم إيماني العميق بأن الدولة يجب أن تتحمّل مسؤوليتها في تمويل ورعاية المشاريع الثقافية والفنية، فإنني لا أؤمن بالانتظار. نحن في “نواة” وفي غيرها من المؤسسات المستقلة تعلمنا – بل اضطررنا – إلى خلق البدايات، والعمل من الأرض لا من المؤسسات الرسمية. ومع ذلك، لا يمكن لهذا النوع من العمل أن يستمر إلى ما لا نهاية بدون بنى دعم مستدامة. ولهذا فإن علاقتنا بالدولة يجب أن تكون علاقة مطالبة لا تبعية. نطالبها بأن تدمج الثقافة العربية ضمن سياسات التعليم، والتمويل، والتعددية، والانتماء، لكننا لا ننتظر منها أن تُدير المشهد وحدها. نحن نحتاج إلى نموذج شراكة ذكية: دولة تؤمن بأهمية الثقافة وتوفّر البنية التحتية، ومجتمع مدني نشيط وخلاق يصوغ المحتوى ويبتكر الشكل. في كندا، هناك فرص كبيرة لذلك – لكنها تحتاج إلى تمكين المؤسسات الثقافية العربية لتصل إلى أدوات التمويل، وتُعامل كجزء من النسيج الثقافي الوطني، لا كصوت هامشي أو موسمي. بكلمات أخرى: نريد أن نرى الثقافة ممأسسة، نعم، ولكن دون أن تفقد حرّيتها. نريد أن تكون مسؤولية الدولة، دون أن تكون ملكاً لها.
س6 : نحن نتحدث ونعرض ونمثل ونغني لبعضنا !! … الم يحن الوقت كي تكون معارضنا ومشاريعنا الثقافية والفنية ونقل همومنا وابداعانا الى بقية الكنديين من أعراق متنوعة من خلال التنفيذ باللغتين الإنجليزية والفرنسية .
ج6: هذا سؤال جوهري في صميم العمل الثقافي في المهجر، وأجيب عليه ببساطة: نعم، آن الأوان، بل تأخّر الوقت، لننفتح بوعي وشجاعة على المجتمع الكندي الأوسع بلغاته وتنوعاته. لكن الانفتاح لا يعني الانصهار أو التنازل، بل يعني الترجمة الواعية، والتوسيع المدروس لدائرة الخطاب، والانخراط في الفضاء العام الكندي ليس كضيف، بل كجزء أصيل منه. ما نقوم به اليوم في مؤسسات مثل “نواة” ليس مجرد مخاطبة الذات، بل بناء خطاب مزدوج: يحافظ على الجذر العربي، ويُترجم جوهره بلغة الآخر، سواء كان الآخر كندياً ناطقاً بالإنجليزية أو الفرنسية، أو مهاجراً من ثقافة أخرى. إننا لا نتخلى عن اللغة العربية حين نكتب أو نعرض بالإنجليزية، بل نحملها معنا كنبض داخلي، ونعيد قولها بصيغ جديدة.
في الحقيقة، أحد الأهداف الأساسية لمعرض ميسيساغا للكتاب العربي كان تمهيد الطريق نحو هذا الانفتاح. وكما ذكرتُ في سياق سابق، فإن المعرض يُعد الخطوة الأولى في استراتيجية “نواة” التي تبدأ بتمكين الكتّاب والفنانين العرب داخل مجتمعهم الناطق بالعربية، لكنها لا تتوقف عند هذا الحد. الخطوة التالية، التي بدأنا بالفعل العمل عليها، هي برنامج ترجمة وترويج للمؤلفين الكنديين العرب إلى المجتمع الكندي الأوسع، بهدف كسر الجدران اللغوية والرمزية التي تفصلنا عن جمهورنا المحتمل هنا.
نحن نؤمن أن قضايانا ليست محلية أو حصرية، بل إنسانية بالدرجة الأولى. ولذا فإن سردها بلغة يتلقاها الآخر ليس فقط تكتيكاً ثقافياً، بل موقفاً أخلاقياً ومعرفياً منفتحاً على الحوار والنقاش والنقد.
الجواب إذًا ليس أن نغني للآخر بدل أنفسنا، بل أن نُتقن فن الغناء بلغات متعددة، دون أن نفقد نغمتنا الخاصة.
س7: هل يمكنك وصف وتشخيص حال الثقاقة والفن بالمجتمع العربي الكندي ؟
ج7: الثقافة والفن في المجتمع العربي الكندي يمران الآن بلحظة شديدة الحيوية، لكنها في الوقت نفسه لحظة هشّة. نحن أمام مشهد غني بالمواهب والطاقات، وبالقصص التي تنتظر أن تُروى، لكننا نفتقر إلى البُنى التحتية المستقرة والتمويل الكافي والتنسيق المؤسسي الذي يمكن لهذه الطاقات أن تستند إليه وتستمر. من جهة، نرى جيلاً جديدًا من الكتّاب والفنانين والمبدعين العرب الكنديين الذين يحملون رؤى جمالية وفكرية ناضجة، ويتقاطعون مع قضاياهم كعرب، ومع واقعهم كمواطنين في مجتمع متعدد الهويات. لكن من جهة أخرى، فإن المؤسسات الثقافية التي يمكن أن تحتضن هذه الطاقات، لا تزال قليلة، ضعيفة التمويل، أو مجزأة في عملها، وكثيرًا ما تجد نفسها تعمل تحت ضغط الموارد لا تحت استراتيجية طويلة المدى. في السياق العام، المجتمع العربي في كندا متنوع للغاية: جغرافيًا، لغويًا، سياسيًا، وطبقيًا. وهذا التنوع يمكن أن يكون ثروة ثقافية ضخمة، لكنه – دون وعي تنظيمي – يتحول أحيانًا إلى تشتّت يعيق التراكم الثقافي الحقيقي. هناك مشروعات فنية وأدبية رائعة، لكن معظمها يبقى محصوراً في نطاق مجتمعي ضيق، أو ينهار بعد أول دورة تمويلية. نحن بحاجة إلى مأسسة العمل الثقافي العربي في كندا: إلى مراكز ثقافية عربية مستقلة، برامج إقامة فنية، صناديق دعم للفنون، دور نشر عربية كندية، وشبكات توزيع وإنتاج وتوثيق تحفظ هذا المنجز من الذوبان. في الوقت نفسه، لا بد من الإشارة إلى نقطة مهمة: الثقافة ليست فقط ما يُنتج على المنصات، بل هي أيضاً ما يُعاش في الحياة اليومية. من الشعر الذي يُقرأ في البيت، إلى الأغنية التي تُغنى في الأعراس، إلى الدبكة، والحكايات، والمأكولات، واللغة. نحن مجتمع يمتلك كنوزاً ثقافية عميقة، والتحدي هو نقل هذه الثقافة من الفلكلور إلى الإبداع، ومن الاستهلاك إلى الإنتاج. في “نواة”، نحاول أن نرصد هذا المشهد، ونتفاعل معه، ونبني عليه. نؤمن أن هذا الجيل – رغم التحديات – قادر على إنتاج مشهد ثقافي عربي كندي له لغته، وجمالياته، وأسئلته الخاصة. والمهم الآن هو أن نمنح هذا المشهد ما يستحقه من رعاية، بنية، وشرعية.
س8: كيف يمكن توجيه صغارنا وشبابنا هنا بكندا لتعلم اللغة العربية ولاحقاً أدابها المتنوعة الغنية .
ج8: الحفاظ على اللغة العربية في المهجر ليس فقط مسألة لغوية، بل مسألة وجود وهوية. اللغة ليست أداة تواصل فقط، بل وعاء للذاكرة، وبوابة للفهم العميق للذات والتاريخ والثقافة.
في كندا، حيث تنشأ أجيال عربية وسط تعددية لغوية هائلة وضغوط اندماج ثقافية قوية، لا يكفي أن نعلّم أطفالنا الحروف والكلمات. نحن بحاجة إلى أن نُحبّبهم باللغة أولاً، أن نعيد وصلها بحياتهم اليومية، بخيالهم، بلعبهم، بموسيقاهم، وبأحلامهم. وهذا لا يتم عبر المناهج التقليدية، بل من خلال التربية الثقافية الشاملة. في “نواة”، نعمل على تطوير برامج تعليم غير تقليدية للغة العربية، تقوم على الفنون التفاعلية مثل المسرح، فعاليات رواية القصة (الحكواتي)، الغناء، الرسم، والكتابة الإبداعية. نستخدم القصة، والدراما، والمسرح التفاعلي، لجعل اللغة حية، محبّبة، ومتصلة بسياقهم العاطفي والنفسي، لا مفروضة عليهم. كذلك، لا بد من دمج العائلة في هذه العملية. لا يمكن أن يتعلم الطفل العربية في المدرسة فقط، إذا لم يكن في البيت من يتحدثها، أو في المجتمع من يحتفي بها. نحن بحاجة إلى مجتمع عربي مصغّر حي، يحتضن لغته في المناسبات، في اللافتات، في الرسائل، في الاحتفال بالكتب والأغاني والمناسبات التراثية.
وبعد اللغة، تأتي الآداب. وهنا يجب أن ننتقل من حفظ النصوص إلى اكتشاف الأدب بوصفه مرآة للتجربة الإنسانية. يجب أن نقدم للأطفال والشباب كتباً وقصصاً تُشبههم، تُشبه واقعهم المركّب، وتمنحهم فرصة لرؤية أنفسهم في النصوص، لا كمجرّد مترجمين لقصص بعيدة. وأخيراً، علينا أن نستثمر في الترجمة العكسية: أن نقدّم الأدب العربي المترجم بشكل ثنائي اللغة (عربي-إنجليزي أو فرنسي)، ليتمكّن الجيل الجديد من التنقل بين اللغتين، والاحتفاظ بالصلة الأصلية، حتى وإن لم يكن يجيد العربية بطلاقة.
ببساطة، نحن لا نريد أن نساهم في تعلّم اللغة فحسب، بل نريد أن نساهم في بناء علاقة حب طويلة الأمد معها،وعلاقة تضمن استعادتها كجزء حيّ من هويتنا.
س9 : هل أنت راضية عن الإعلام الناطق بالعربية في كندا ؟ وكيف يمكن تطويره ؟
ج9: واقع الصحافة الناطقة بالعربية في كندا، في تقديري، يُشبه إلى حد كبير واقع الحركة الثقافية العربية في المهجر: زاخر بالمواهب والإمكانات، لكنه ما زال في طور التشكل والتجذّر، ويحتاج إلى بنى مستدامة تُمكّنه من التراكم والتأثير الأوسع.
هناك جهود صادقة ومبادرات فردية ومؤسساتية تُبذل من أعماق الهم الثقافي، وتسعى بموارد محدودة وإرادة كبيرة إلى أن تكون صوتًا للجالية ومرآةً لتجاربها. وفي مقدمة هذه المبادرات، أخص بالذكر “جريدة ساخر سبيل” التي كان لها دور لافت ليس فقط في مواكبة فعاليات معرض ميسيساغا للكتاب العربي، بل في تقديم خطاب إعلامي يحترم القارئ، ويمنح المثقف والمبدع مساحة حقيقية للتعبير.
ما نحتاجه اليوم هو إعلام عربي كندي ثنائي اللغة، مستقل، ومسؤول، يواكب الحركة الثقافية لا بوصفها خبراً، بل بوصفها فاعلاً اجتماعياً ومكوّناً أساسياً من مكوّنات الهوية. وذلك يتطلب تمكين هذه المنصات وتوسيع شبكات التوزيع، وربطها بجمهور متنوع، يريد أن يرى نفسه وواقعه وتطلعاته منعكسة في الإعلام الذي يتابعه. الإعلام، في نهاية المطاف، شريك في العمل الثقافي، لا مجرد ناقل له. وكلما قوي هذا الشريك، قويت معه رسالتنا، واتسعت دائرة أثرها.
س10 : كلمة أخيرة لقراء جريدة ساخر سبيل وموقع كندا سبيل .
ج10: إلى من يقرؤون الآن، لا على عجل، بل كما يُقرأ النبض عند أول ارتباك، كما يُقرأ الظل حين يطول على جدار غريب… أكتب لكم لا ككاتبة تحترف الجواب، بل كابنة للوجع العربي الذي يتجول في شوارع كندا وهو يُخبّئ في جيوبه رائحة الخبز، وأسماء الشهداء، وصفحات الكتب التي لم تُفتح بعد. في كل سطر نُشر، في كل رواية ة وُلدت بين هجرتين، وفي كل معرض ضمّ وجوهاً تتذكّر أكثر مما تُعلن، ثمة نداء خفي: لنكتب كي نقاوم النسيان، ونقرأ كي لا نُمحى. في هذا الزمن، صار القارئ مقاومًا من نوع آخر. أن تقرأ يعني أن تُصدّق أننا ما زلنا هنا. أن تُمسك بجريدة عربية وسط مدينة تنسى أسماءنا، يعني أنك تُعيد كتابة الخريطة من أولها. ونهاية أُحب أن أقول: فلنقرأ أكثر، لننجو.. ولنفتح نوافذ بيوتنا لصوت اللغة الأم، حتى ولو كانت خافتة. ولنحبّ الكلمة، لأن فيها ما لم تستطع البنادق أن تنتزعه منا. ولـ ساخر سبيل، ولكل من قرأ هذا الحوار بروحه لا بعينه فقط، أنحني بشكر صادق. أنتم الحبر الذي لا يجف، والصفحة التي نعود إليها عندما يختل المعنى.
الخاتمة : يطيب لأسرة ساخر سبيل أن تتقدم لضيفة هذا العدد السيدة الكاتبة باسمة التكروري بالشكر والتقدير لمشاركتها معنا بهذا العدد وأيضاً لإجاباتها الراقية والشافية لكل ما طرح عليها من استفسارات. ونتمنى أن يكون ما قدمناه بهذا اللقاء مفيداً وثرياً لأبناء المجتمع العربي الكندي.