شلبكيات

كتب يحيي بركات: من الكولوسيوم إلى السوشيال ميديا: سياسة الإلهاء وسقوط الطغاة.

عابر سبيل - ص4 العدد 158

عابر سبيل لهذا العدد من ساخر سبيل الشهرية هو المخرج السينمائي يحيي بركات والعبور بعنوان:
من الكولوسيوم إلى السوشيال ميديا: سياسة الإلهاء وسقوط الطغاة.



المخرج والكاتب يحيي بركات.

****

غبار الشمس يهبط على مدرجات روما.
الجماهير تهتف، والإمبراطور يبتسم.
يظن أنه يملك قلوبهم، بينما يملك فقط صدى أصواتهم.
هكذا بدأت الحيلة القديمة:
أن يُشغلوا الناس بالفرجة ليغيب السؤال،
أن يُقدَّم الخبز في يدٍ والسيرك في اليد الأخرى.
لكن المصارع الذي أرادوه كبش فداء، تحوّل إلى مرآة.
الناس رأت فيه نفسها لا عدوها.

وفي لحظةٍ واحدة، أدرك الجمهور أن الدماء التي تصفق لها هي دماؤه.
منذ تلك اللحظة، صار الوعي هو السيف الوحيد القادر على إسقاط العروش.
في أوروبا، كان المشهد أكثر أناقة لكنه المعنى ذاته.
القصور تلمع، والذهب يغطي رائحة الجوع.
الملوك يرقصون فوق صمت الناس، والموسيقى تخفي صرير القيود.
الاحتفالات ليست فنًا، بل سياسة…
كل لحنٍ يُعزف ليؤجل ثورة،
وكل وليمةٍ تُقام لتخدير ضمير.
لكن المقصلة في النهاية صعدت على الخشبة،
وسقطت التيجان كما تسقط الأقنعة في نهاية عرضٍ طويل.
ثم جاءت الكاميرا.
تبدّل المسرح إلى شاشة،
والفرجة إلى فيلم.
هتلر يصنع نفسه عبر عدسةٍ مطيعة،
ستالين يتجوّل بين الحقول كقدّيسٍ من صفيح،
وموسوليني يرفع العلم كستارةٍ تخفي الخوف.
كلّهم أدركوا أن السينما أخطر من الجيش،
وأن الصورة تستطيع أن تحكم أكثر من المدفع.
لكنهم نسوا أن الكاميرا لا تنسى،
وأنها حين تُعيد العرض،
تُظهر الحقيقة بلا موسيقى.
في الشرق،
ارتدى المسرح ثوبًا عربيًا.
الخطب والمواكب واللافتات،
وجوه القادة في كل زاوية،
وصوت المذيع يصفق قبل الجمهور.
الاستعراضات تغطي العجز،
والأناشيد ترفع المعنويات بينما تسحق المعنى.
حتى صارت الساحات سيركًا رسميًا، والصمت فضيلة، والتفكير جريمة.
لكن الجدار الملوّن بالصور لا يحجب الحقيقة إلى الأبد، فحين ينكسر الخوف، يُكسر القناع،
وحين يصحو الوعي، تنكشف المسرحية من دون مخرجٍ ولا مؤثرات.
خلف هذا كله، يقف الاستعمار كمخرجٍ خفيٍّ يدير العرض من بعيد.
هو من يكتب النص، ويختار الأبطال، ويُسقط من يشاء ليأتي ببديله.
تغيّر شكله عبر العصور:
مرةً إمبراطورية، مرةً انتدابًا، ثم احتلالًا يرفع شعار
“الديمقراطية” أو “السلام”. لكنّه في كل مرة يستخدم الطغاة المحليين كأبطالٍ لفرجته القبيحة.
الاحتلال في فلسطين هو المشهد الأوضح:
هناك حيث تتقاطع الأضواء بين الوعي والدم، وفي زوايا المسرح،
من لا يزال يظن أن الضوء خطرٌ على جمهوره، وأن الوعي مؤجَّلٌ إلى مشهدٍ قادم، بينما الوعي قد وقع وانفجر كحقيقةٍ بين الناس. حتى الأطفال صاروا يرون ما يتعامى عنه الكبار،
يدركون من وعد وصدق وضحّى وصمد، ومن نام واستغرق في حلمٍ صنعه لنفسه كي لا يسمع الحقيقة.
أمّا العدو، فقد صعد إلى الخشبة بلا قناع، يقتل أمام الكاميرات، وتحت الأضواء التي ظنّ أنها تحميه.
لكنه لم يفهم أن الضوء لا يرحم، وأن التاريخ لا يعيد العرض إلا ليُعلن النهاية.
اليوم تغيّر شكل الكولوسيوم.لم يعد من حجرٍ أو دم، بل من ضوءٍ باردٍ اسمه الشاشة.
الهواتف صارت مقاعد الجمهور، وكل متابعٍ مصارعًا في حلبةٍ رقمية.
الخوارزميات توزّع علينا رغباتنا كما كان الإمبراطور يوزّع الخبز. تمنحنا لحظاتٍ من المتعة كي لا ننتبه إلى ما يُسلب منّا.
الفرجة الآن بلا دماء، لكن أثرها أشدّ عمقًا:
تسرق وعينا ونحن نبتسم. ومع ذلك، في قلب هذا العصر المزيّف،
يولد الوعي من جديد، كما يولد الضوء من شاشةٍ سوداء.
طفلٌ في غزة يصرخ، امرأةٌ توثّق هاتفها قصف بيتها،
شاعرٌ يكتب ضد الصمت، ومخرجٌ يضع الكاميرا في وجه الحقيقة دون مؤثرات.
كلّهم امتدادٌ لذلك المصارع القديم الذي قال “لا” أمام الإمبراطور.
كلّهم يعرفون أن التاريخ ليس في يد من يحكم، بل في يد من يرى.
في النهاية، لا يتغيّر شيء سوى الأسماء. الذين ملأوا الكولوسيوم بالدماء صاروا رمادًا،

الذين ملأوا الشاشات بالخطابات صاروا لقطاتٍ منسيّة، والذين يملؤون اليوم العالم الافتراضي بالشعارات،
سيُعرضون يومًا على شاشة التاريخ كمشهدٍ ختاميٍّ في فيلمٍ طويلٍ عن الغرور.
التاريخ لا يكرّر نفسه عبثًا، بل لأن الممثلين الجدد يصرّون على أداء الدور ذاته.
الزيّ يتبدل، اللغة تتبدل، لكن النهاية محفوظة في ذاكرة الوعي:
كل من يخاف من وعي شعبه، وكل احتلالٍ يخاف من وعي العالم،
سيُهزمان على يد هذا الوعي نفسه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!
إغلاق
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock